قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
[وسادسُها: أن كلامه يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته وهذا يقوله صاحب المعتبر ويميل إليه الرازي في المطالب العالية]
وذكرنا أن صاحب المعتبر هو أبو البركات ابن ملكا البغدادي وأنه من الفلاسفة الذين يدعون إِلَى الفلسفة والكلام؛ لكنه كَانَ أقرب إِلَى السنة من أكثر الفلاسفة، كما بيّن ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في منهاج السنة يقول: إن الفلاسفة يتأثر كل واحدٍ منهم بحسب البيئة التي عاش فيها فـابن رشد نشأ في بيئة كلابية أشعرية؛ ولهذا يكثر في كتب ابن رشد نقد الأشعرية بشدة، ومن ذلك نقده للغزالي فلما كتب الغزالي تهافت الفلاسفة ردَّ عليه ابن رشد بكتاب تهافت التهافت.
أما ابن سينا فإنه نشأ بين المعتزلة والشيعة وذكرنا أن ابن سينا هو في أصله شيعي من الإثنى عشرية الرافضة؛ ولكنه في حقيقته باطني زنديق فهو من الشيعة الغلاة القرامطة العبيديين

وأما أبو البركات ابن ملكا فإنه نشأ في بغداد حيث السنة والحديث، فتأثر بتلك البيئة فكان أخف المتفلسفة وأقربهم إِلَى منهج الحق والصواب بخلاف أُولَئِكَ الذين أوغلوا في التجديدات عَلَى طريقة الفلاسفة اليونان، وكتابه المعتبر هو في علم الكلام.
وأما الرازي فالمقصود به هنا: صاحب المطالب العالية وهو فخر الدين الرازي عبد الله، ويُقال له: ابن الخطيب أو ابن خطيب الري؛ لأن أباه كَانَ خطيبَ الري، ثُمَّ ورث الخطابة أيضاً بـالري من بعده، فإذا جَاءَ في أحد الكتب قال الفخر أو قال ابن الخطيب، فالمقصود به هذا.
وإذا قيل: قال الرازي والرازي نسبة إلى الري، فمن كَانَ من العلماء أو المتكلمين أو الفقهاء من أهل الري فإنه يُقال له رازي، وهي نسبة من حيث اللغة خاطئة؛ لأن النسبة إِلَى الري ريي وليست رازي، ولكن هذا جرى عليه الاصطلاح.

وإذا قيل الرازي في علم الكلام أو الفلسفة خاصة فإنه يحتمل اثنين:
إما الفخر الرازي.
أو الطبيب أبو زكريا الرازي المشهور بالطب أكثر منه في علم الكلام، أو في التفسير أو في الدين، ولكن التمييز بينهما ممكن واضح بأمور:
أولاً: أن أبا زكريا الرازي الطبيب توفي سنة 311هـ، بينما الفخر الرازي توفي سنة 606هـ، فهناك ثلاثة قرون بينهما، فهذا مما يعين عَلَى معرفة صاحب القول.
ثانياً: أنه إذا كَانَ في موضوع الفلسفة البحتة الإلحادية وفي مجال الطب أو ما يسمى بالعلوم الطبية أو العلوم الطبيعية، إذا أطلق الرازي فهو الرازي الطبيب وقد كَانَ زنديقاً مُلحداً -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا الذي يفتخر به الباحثون في العلوم أو في الطب، ويقولون: إنه ممن أسهم من الْمُسْلِمِينَ في تقدم البحث، فهذا هو الطبيب وليس الرازي فخر الدين المفسر المتكلم.
وهو بلا شك مفخرة للإسلام في ظل حكم الإسلام وفي ظل حضارة الإسلام، أن ينبغ أي إنسان في أي مجال أو أن يخترع أو يكتشف أو يتفوق، حتى لو فرضنا أن هذا الإِنسَان يهودي أو نصراني؛ ولكنه نبغ في ظل الدولة الإسلامية أو العالم الإسلامي، واشتهر واخترع وابتكر، فهذا مفخرة للحضارة الإسلامية؛ لأن المكتشفين والمخترعين في الغرب، في ظل حكم الكنيسة النصرانية قبل القرن السادس عشر والسابع عشر كانوا يتعرضون للحرب والإعدام والصلب والسجن، وأمثال ذلك من العقوبات.
لكن في ظل سماحة الإسلام ويُسره تتقدم وتنمو، أو تترقى هذه العلوم من طب أو هندسة أو فيزياء أو رياضيات أو ما أشبه ذلك، وإن كَانَ المبدع فيها ليس مسلماً، فإن الفضل للإسلام وللحضارة الإسلامية، فـابن سينا أو الرازي هذا الطبيب كلاهما كَانَ مُلحداً زنديقاً بلا شك؛ ولكن علمهم وأمثالهم هو من إنتاج الحضارة الإسلامية، أي: ما أبدعوه في جانب الرياضيات والطب وغيرها فالفضل يعود فيه للإسلام، ولا نتكلم في جانب الإلهايات والعقيدة؛ لأنه مردود عليهم قطعاً، والمقصود أن الرازي الذي هو فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير وصاحب الأصول هو صاحب المطالب العالية الذي ذكره المُصنِّف هنا.